-A +A
رندا الشيخ
تفاجئنا الحياة دوما بما لا نهوى تجربته، ونتجنب سماع أي شيء يتعلق به. وهي لا تتردد في أن تحملنا آلاما لا طاقة لنا بها، وتدفع بنا نحو دوامات لا نرى فيها نقطة النهاية. البعض منا يستسلم بسهولة عند أول منعطف مظلم يواجهه، فيعود أدراجه مهرولا. والبعض الآخر ينزلق في المنحدر ويقع، ثم ما يلبث أن يقوم وينفض عنه ما علق به، لكنه يبقى واقفا مكانه ومترددا لوقت قد يطول وينسيه اتجاهه. وهناك من يركض مغمضا عينيه ومطفئا مصباح عقله، لا يعلم لماذا يركض وإلى أين يود الوصول. في المقابل، هناك من يمشي وهو يتحسس موطئ قدمه، يسرع في خطواته حين تستوي الأرض أمامه ويبطئ حين يزداد الطريق وعورة، لكنه لا يصل أبدا إلى أي محطة بسبب شكه ووسوسته الدائمة حيال كل شيء حوله. لكن وبالرغم من حاجتنا للقليل من الشك الذي يقودنا للحقائق، إلا أن علينا الحذر من أن يمسك بزمام حياتنا !
لأن ذلك سيحرمنا من الاستمتاع بحياة طبيعية، وتحولنا إلى كائنات متوجسة دوما من أي شيء ومن كل شيء ! فتتأثر قراراتنا حتى نصاب بالتخبط. وهذا ما حدث مع سهام.

سهام كانت امرأة عصامية في شبابها، ورقيقة كنسمات الخريف وحفيف أوراقه المتساقطة. هاجرت إلى بلد عربي بسبب ما يعانيه بلدها من حروب حرمته الاستقرار وقلصت فيه فرص العمل، وهي ابنة العشرين ويتيمة الأبوين، وأخت لثلاثة براعم على مقاعد الدراسة. في السنة الرابعة من الغربة، تزوجت برجل أحبته جدا وعاشت معه أجمل عامين في حياتها، بعد أن شعرت بالاطمئنان لزوج يساندها ويحمل معها هم المسؤولية التي أرهقتها. لكنها هجرته حين اكتشفت أنه لم يكن يرسل في الأشهر الأخيرة تلك المبالغ التي خصصتها لأخواتها بحجج متنوعة ! وبأنه لم يكن سوى مزواج يسعى خلف الفتيات المغتربات، كي يسطو على أموالهن الواحدة تلو الأخرى، بعد أن يتقن دور المحب الذي يقدس الحياة الزوجية !
تلك التجربة هزت سهام كثيرا، وحولتها إلى شخصية منعزلة، تتوجس الشر من أي رجل يحاول الاقتراب، وتصده بعنف قد يصل إلى التجريح. فعاشت لسنوات طويلة وهي تضمر الأسى والشك وجرحا لم يندمل. وبقيت مغتربة تنفق على أخواتها وأبنائهن وأحفادهن، حتى ماتت وحيدة في سكنها التابع للعمل، وعادت لوطنها محمولة في نعش.
ترى، هل تستحق أرواحنا الثمينة أن نقتلها بسهام الشك، والأرض تفيض بما يستحق الحياة؟.